[17:24مكة المكرمة ] [27/11/2008]
أطفال يرفعون لافتات خلال مظاهرة تطالب بإكرام حجاج غزة
بقلم: د. يونس الأسطل
(حرمان فرسان القطاع من الحج يُبشر بمجيء الخير من كلِّ فج).
قال تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ (الفتح: 27).
في إطار الحصار المضروب على قطاع غزة؛ فإن موسم الحج مرشَّحٌ للفوات على الذين خرجوا في القرعة, والمعلوم أن أكثر من تسعة عشر ألفًا قد سجَّلوا للحج في هذا العام, وهو مؤشرٌ على درجةِ التدين في القطاع, ولما كان نصيب غزة لا يزيد عن تُسْعِ ذلك العدد؛ فقد جرت قرعة شفافة, وِفْقَ برنامج محسوب, وبحضور ثلةٍ من المراقبين والحجيج, وقد قام الألفان والمائتان الظافرون بالفرصة بتسديد ما عليهم من رسومٍ ونحوه, ثم كانت المفاجأة؛ حيث قامت السلطة المغتصبة في رام الله بمنع دفاتر جوازات السفر عن جميع سكان القطاع, ثم تواصلتْ سِرًّا من قريبٍ مع ألف وخمسمائة؛ أكثرهم ممن لم يكن قد دَوَّنَ اسمه لدى مكاتب الحج والعمرة, والقاسم بينهم الولاء لسلطة الأشقياء, أو الوصول إليها بالرشوة, أو الحصول عليها بالمحسوبية.
ومن عجبٍ أن تتماهى السفارة السعودية في عمَّان مع أولئك المختلسين, وأن تبوء كل المحاولات مع السلطات في الحجاز بالخيبة, والظاهر أن أهل القطاع سيحرمون من أن يشهدوا منافع لهم, ومن أن يَطَّوَّفوا بالبيت العتيق، فضلاً عن أن يُفِيضوا من عرفات, فيذكروا الله عند المشعر الحرام, ثم يذكروه من بعد يوم النحر في ثلاثة أيام, لمَن أراد أن يُتِمَّ المناسك, فلا يتعجَّل في يومين، فضلاً عن ذكر الله كذكرهم آباءهم, أو أشدَّ ذكرًا.
ولئن كنا قد حيل بيننا وبين ما نشتهي من إقامةِ هذا الركن في عامنا هذا، فلنا في رسول الله أسوة وسلوى؛ فقد حيل بينه وبين العمرة في العام السادس من الهجرة, وهو على مشارف الحرم؛ فقد كان من شروط صلح الحديبية أن يعودوا في ذاك العام, وعلى رأس سنة لاحقة تُخلَى لهم مكة ثلاثة أيام, مع شروطٍ مجحفةٍ أخرى, ومع تَمَحُّكاتٍ في الصياغة, جعلت الصلح في الظاهر نوعًا من إعطاء الدَّنِيَّةِ في الدين, وقد تحفَّظ أكثر السابقين الأولين من قبوله, فأبَوا أن ينحروا هَدْيَهم, وأن يَحُلُّوا إحرامهم إيذانًا بالعودة قبل أن يحكم الله بينهم وبين عدوهم, لولا أن الله تبارك وتعالى قد تداركنا برأي أم سلمة رضي الله عنها؛ فقد أشارت على زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بنفسه, فيكون لهم أسوةً, فلما فعل أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين, وألزمهم كلمة التقوى؛ ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم, فقد كانوا أحقَّ بها وأهلَها.
أما هذه الآية فتشير إلى الرؤيا التي قَصَّها النبي عليه الصلاة والسلام على أصحابه الكرام؛ إذ رأى في المنام أنه قد أتى البيت الحرام, فطاف وسعى آمنًا, ثم انقسم أصحابه بين محلِّقين رءوسهم ومقصِّرين, وهم لا يخافون من العدوان والإزعاج, وكانوا يظنون أن ذلك سوف يتحقق في ذلك العام؛ لذلك فإنهم حين دُعُوا إلى التحلل من الإحرام راحوا يراجعون في الرؤيا, وهي حق؛ فالشيطان لا يتمثَّل للأنبياء بتاتًا, وما ينبغي لهم وما يستطيعون, إنهم عن قلوبِ الأنبياء لمعزولون.
وقد أجابهم عليه الصلاة والسلام: "هل قلت لكم: إن ذلك كائن في هذا العام؟!", قالوا : لا, قال: "فإنكم ستأتون البيت, وستطوفون آمنين لا تخافون", وقد تحقق هذا في العام القابل, ثم تحقق بعد عامين بمجيء نصر الله والفتح, ولقد كان ذلك في أجلى صورة- من حيث الأمن وعدم الخوف- في حجة الوداع, فصدق الله بذلك رسوله الرؤيا بالحق.
وأما قوله: ﴿فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا﴾ فالمراد أنه كانت له الحكمة البالغة؛ إذْ لو تمكنوا من العمرة في ذلك العام لبقيت حدثًا صغيرًا, ولم ينكسر الحصار بالكلية, تمامًا كما تفتح المخابرات المصرية معبر رفح يومًا أو يومين لدخول وَجْبةٍ من العالقين والمرضى, ثم تُحْكِمُ إغلاقه بالأصفاد والأجناد, لكن الله جل جلاله أراد أن يقع الصلح, وأن يأمن الناس, فيتحرك الصحابة دعاةً في القبائل والقرى, ليدخل في الإسلام بين الصلح والفتح أكثر من خمسة أضعاف الذين دخلوا فيه من قبل, فضلاً عن التفرغ ليهود خيبر, وتحويلهم من المفسدين في الحجاز إلى خَدَمٍ في مزارعهم؛ يؤدون شطرها أذلةً وهم صاغرون, ثم كان سفراؤنا إلى عددٍ من الملوك والزعماء؛ لِيُسْلموا فَيَسْلموا, وإلاَّ فإن عليهم إثم أقوامهم, فمنهم من آمن, ومنهم مَن كفر, وقد أسلم بإسلام ثلاثةٍ منهم شعوبهم, فدخل في الإسلام أهل مصر, والبحرين, وعُمَان من أرض الخليج, وأما الذين أَبَوا فقد مَزَّقَ الله مُلْكهم في بِضْع سنين.
هذا، بالإضافةِ إلى وجود رجالٍ مؤمنين, ونساءٍ مؤمنات من المستضعفين بمكة, كانوا يكتمون إيمانهم, ولو وقع القتال بعد البيعة على الموت تحت الشجرة لأرقنا دماء بعضهم, ولسوف تصيبنا منهم مَعَرَّةٌ بغير علم, فضلاً عن علم الله جل وعلا بأن كثيرًا من أهل مكة سيدخلون في الإسلام, حين يَنْقُضُ أكابر مجرميها ذلك الصلح فنفتحها عنوةً, ونكسر شوكتهم إلى الأبد.
وأما قوله تعالى: ﴿فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾؛ فقد اخْتُلِفَ في تأويله بين أن يُراد به صلح الحديبية, أو فتح خيبر, ولا مانعَ من إرادة الأمرين, فقد كان فتح خيبر بركة كبرى من حيثُ القضاء على شوكة اليهود ومكائدهم, ومن حيثُ جعل أموالهم غنيمة كُوفِئَ بها الذين بايعوا تحت الشجرة, بالإضافةِ إلى جعفر بن أبي طالب ومُهَاجِري الحبشة, الذين رجعوا من غيابٍ فاق ثماني حِجَجٍ, وربما أتمَّ بعضهم عشرًا, كما فعلها سيدنا موسى عليه السلام في مدين, وأما صلح الحديبية فقد عرفتم طَرفًا من بركاته.
فإذا عُدْنا إلى واقعنا فإننا متفائلون- إذا حيل بيننا وبين إتمام الحج والعمرة لله- أن يجعل الله تبارك وتعالى دون ذلك فتحًا قريبًا؛ ذلك أن الحكومة هنا في القطاع عازمة على منع الحجاج غير الشرعيين من الخروج, ما لم يخرج أصحاب القرعة معهم, وهذا يفضي إلى وضع حَدٍّ لِتَغَوُّلِ سلطة رام الله على حجاج غزة, ومَنْ يدري فلعل التدخلات تُفضي إلى حوارٍ جادٍّ يضع حدًا للقطيعة التي يقترفها أهل المقاطعة, ويوقف استئساد الحِمْلان على المقاومة والحركة الإسلامية في الضفة, وينهي التفرد بالمنظمة وسفاراتها ومؤسساتها, كما يكسر احتكار الأجهزة الأمنية ذات العقيدة الصهيونية, بالإضافة إلى فتح المعابر, وانتزاع حرية الحركة للبشر والثمر, وغياب التجهم الذي يُبديه المصريون لمرضانا وحُجَّاجنا, وغير ذلك مما يعلمه الله وأنتم لا تعلمون.
باختصارٍ.. فإن منعَ الحجيج شهادة تزكية لأهل القطاع, وأنهم لم يخنعوا ولم يخضعوا, وأن قريشًا حينما شرطت أن يعودوا في عامهم ذاك كانت تَُصُدُّ عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعله الله للناس سواءً العاكف فيه والباد, فكانت جديرة بعذابٍ أليم ﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ﴾ (الأنفال: من الآية 34) فليتهيأ المانعون لأهل غزة لِسُنَّةِ الله في الأولين, ولن تجد لسنة الله تبديلاً، والله ولي المؤمنين.